هل من عودة -قصة قصيرة -أ.هاجر توفيق
من بينهم كنت أنا الوحيد الذي رفع رأسه و تأمل المشهد ، الكُل انفصل عن العالم ، يتوجهون للمجهول ، لا يأبهون لما حدث و لا ما سيحدث في المستقبل ، مهما كان سيئاً لن يكن أسوء مما حدث .
وصلنا إلى الشاطئ و بدأ الجميع في الصعود على المراكب لتحملنا إلى مكان لا نعرف إلا أنه ليس لنا .
طوال تلك السنوات يأخذني عقلي إلى ذلك المشهد و تلك المرأة ، ماذا لو أننا حاولنا الصمود و الرفض مثلها ، لو أننا فقط حاولنا ، هل من جديد ؟! هل كُنا لنستعيد أرضنا و بيتنا ؟! و حتى لو قُتلنا ، ألا تكفي المحاولة ؟ .. ما قيمة الحياة و نحن نعيش مسلوبي الأرض و الكرامة و الحرية !
تقدمت مع أبي و أمي وسط الحشود يحوطنا الجنود من كل اتجاه
و كأنهم يخافونَ منّا أو ينتظرون هروبنا من بين أيديهم ، كان الجميع هائمين على
وجوههم مستسلمين ، يسيرون مطأطئي الرأس ، و بين حينٍِ و آخر أجد أحدهم يرفع رأسه
لينظر حوله و يُدقق في تفاصيل القرية ليحفظها عن ظهرِ قلب ، و كأنهم موقنون أن هذه
هي آخر لحظاتنا ها هُنا .
من بينهم كنت أنا الوحيد الذي رفع رأسه و تأمل المشهد ، الكُل انفصل عن العالم ، يتوجهون للمجهول ، لا يأبهون لما حدث و لا ما سيحدث في المستقبل ، مهما كان سيئاً لن يكن أسوء مما حدث .
لقد فقدنا
وطننا .. فهل من أسوء ؟!
وصلنا إلى الشاطئ و بدأ الجميع في الصعود على المراكب لتحملنا إلى مكان لا نعرف إلا أنه ليس لنا .
فجأة سمعنا
صراخًا ، بكاء و عويلا ، نظرت صوب الصوت فوجدت امرأة عجوزًا تلتحف بالسواد و قد اظلم
وجهها من الخوف أو ربما من الألم . توقفت عن السير فجأة و رفضت الصعود إلى المركب
و أخذت تصرخ في الجميع " لن أذهب إلى أي مكان ، سأبقى و لو مِتّ ، بيتي هُنا
، أرضي هُنا "
أخذ الجنود يضربونها و يسبونها فسقطت و ارتطمت بالأرض
، بكت في لوعة و هي تردد كلماتها من جديد ، و حين سئم منها الجنود كانت قد توقفت
عن الصراخ و وهن جسدها .. ران الصمت في المكان حين فقدت وعيها و اختفى صوتها فجأة
كما دوى فجأة . التف حولها بعض الجنود و حملوها إلى مركبنا و لمحتُ دموعاً تسيل
على خديها رغم أنها لم تكن واعية آنذاك .
حملتنا
المراكب و توجهت بنا إلى ما لا نعرف كنهه و بعد ما شعرنا بأنها سنوات من الألم و
الإحباط و اليأس كنا قد وصلنا .
بعد أيام من وصولنا إلى أحد المخيمات وجدنا والدي
مسطحًا بالخيمة يعاني من حرارة شديدة بجسده و يهذي بصوتٍ منخفض ببعض الكلمات ،
اقتربت قليلاً منه فسمعت نفس الكلمات التي رددتها تلك المرأة ذات الرداء الأسود .
في المساء
توفى والدي و لفظ أنفاسه الأخيرة . لم أفهم ذلك المشهد إلا بعد سنين حين مررت
بتجربة مشابهة لما طُردنا من منزلنا الذي عشتُ فيه لأكثر من عشر سنوات ، فقط لأنه
ليس لنا و ليست تلك ببلدنا . بلادنا لفظتنا و ما لنا مِن مُستقر .
طوال تلك السنوات يأخذني عقلي إلى ذلك المشهد و تلك المرأة ، ماذا لو أننا حاولنا الصمود و الرفض مثلها ، لو أننا فقط حاولنا ، هل من جديد ؟! هل كُنا لنستعيد أرضنا و بيتنا ؟! و حتى لو قُتلنا ، ألا تكفي المحاولة ؟ .. ما قيمة الحياة و نحن نعيش مسلوبي الأرض و الكرامة و الحرية !
"
ما قيمةُ الإنسان ؟!
بلا
وطن
بلا
علَمْ
ودونما
عنوانْ
ما
قيمةُ الإنسانْ ! "

0 التعليقات :
إرسال تعليق