الغريزة الغالية
مفردات طائشة
منذ فجر الإنسانية كان السعي للمعرفة هو هدف الإنسان الأول، إلا أن ما نحن بصدده الآن هو الحديث عن الغريزة وليس النظرية ، فرغم الرابط الوثيق بين الأمرين إلا أننا سنتناول المعرفة من حيث هي غريزة مُجردة ، متتبعين في هذا منبعها الأول ثم روافدها التالية وما يترتب عليها جفافًا وفيضانًا . .
وغريزة المعرفة كما ندعي هي تلك الغريزة التي لا يمكن قياس الأشياء والحكم عليها وبناء الرؤى بالشكل الصحيح إلا من خلالها .
والمعرفة التي نتحدث عنها تتجاوز المعرفة الأكاديمية محدودة المجال إلى المعرفة الفلسفية الكلية للأشياء ، بعيدًا عن عوامل التأثير وبهدف تحرير الحواس الإدراكية المختلفة من ضغط التوجيه
ولن نتجاوز إذا أجزمنا بأن هذه الغريزة تنمو بمجرد اكتمال نمو المخ منذ مرحلة التكوين الجنيني الأولى للإنسان، فقد أثبتت الدراسات المتخصصة إن الجنين بمجرد اكتمال حواسه الأولى داخل الرحم يبدأ في محاولات بدائية لالتقاط الأصوات من العالم الخارجي في محاولة لتحليلها وتمييزها ولا شك أنه يفعل ذلك بواسطة تلك الغريزة التي نتحدث عنها ، ذلك أن كافة حواس الإنسان الأخرى تكون مشلولة أو محدودة التأثير بفعل الحيز المُظلم الذي يعيش بداخله في تلك المرحلة .
وفي المراحل التالية ومع الانتقال من الحالة الجنينية إلى الحالة الطفولية تبرز هذه الغريزة بشكل أكثر وضوحًا في تصرفات الطفل وانفعالاته بالاستجابة أو الرفض للمؤثرات الخارجية المختلفة لافتقاده الطريقة الصحيحة في توظيف حواسه في هذه المرحلة
إلا أنه ومع استمرار نمو الحواس الأخرى يبدأ الإنسان في الاعتماد بشكل أكبر عليها ويتقلص تدريجيًّا دور غريزته المعرفيه المُجردة ، فيبدأ في فقدان قوة الدفع الذاتية التي تحركها غريزة المعرفة وينتقل من مرحلة البحث الذاتي عن حقيقة الأشياء بواسطة المعرفة المُجردة من توجيه الحواس المختلفة ، إلى مرحلة البحث الموجه من خلال دائرة الرعاية الأسرية في مراحله الأولى ، ثم من خلال دائرة المنظومة الدراسية التعليمية والمحيط الاجتماعي في المراحل التالية والتي تؤسس لمعظم توجهات الإنسان في الإطار المعرفي .
ومع تنامي النمو الإدراكي للإنسان يبدأ ( الإنسان الطبيعي ) في الشعور بالحاجة للعودة لغريزته الأولى الطبيعية النقية لفهم المتناقضات المختلفة في محيطه الذي يعيشه وذلك عن طريق إخضاع حواسه المختلفة لتلك الغريزة ، وتشكل هذه المرحلة خطًّا فاصلاً في تحديد الشكل أو التكتيك الإدراكي للإنسان ، فإما أن يستجيب تلقائيًّا للسائد ،ويقبل به دون إضافة أو حذف وهي الحالة التي يتم فيها التحييد الذاتي لغريزة المعرفة تحت تأثير إهمال استخدامها ، وإما أن تقوده غريزته المعرفيه نحو السير العكسي للخط الذي سار أو سُيَّر إليه سابقًا والذي يشعر أنه لا يلبي حاجاته الإدراكية المختلفة فيبدأ في رحلة صعبة بإتجاه غير المألوف من أجل فهم المألوف وذلك من خلال التمييز بين المتناقضات بهدف الوصول للحقيقة النهائية التي تضع حدًّا لتساؤلاته الحائرة . .
ويتم ذلك الانقلاب العكسي في رحلة الفهم بواسطة تحرير العقل من المألوف وإعادة بناء النموذج الإدراكي والمعرفي ابتداءً بالهدم الكلي لما هو سائد تحت تأثير التوجيه
ولذلك يمكننا القول في النهاية إن ذلك الشخص الذي يخضع كُليًّا لأشكال التوجيه المختلفة بمؤثراتها التعليمية والثقافية والمجتمعية دون محاولات لإعادة تفكيك وتركيب نموذجه المعرفي ،هو في حقيقة الأمر إنسان فاقد لغريزة المعرفة وبالتالي لا يمكننا الحكم عليه بمعيار النضج المعرفي ،ذلك أنه وبتلك الحالة يعتبر في طور الإنسان الجنيني غير مكتمل النمو.
(مجلة على رصيف الكلمة-العدد 1)

0 التعليقات :
إرسال تعليق